آمال موسى في مجموعتها "أنثى الماء "
تشير نحو البعد الذاتي أكثر من بوحها الفلسفي .
كتب- علي الستراوي- شاعر وكاتب بحريني
حينما تكون اللغة الشعرية هي نفسها اللغة التي تتكئ عليها الشاعرة الأنثى، تكون هذه اللغة مرتبطة بعلاقات مؤثرة في ذات الشاعرة، التي تعرفها الأنثى أكثر من غيرها، لأن كل المفاتيح التي تحملها هذه الأنثى عبر كتابة النص هي بمثابة مفاتيح ذات اتصال مؤثر وخاص عند الأنثى التي تجرها أدواتها نحو مدلولاتها الحسية والنفسية، المؤثرة فيها كأنثى تتصل مع الآخرين عبر هذا التأثر والإحساس .
فيشار لها من خلال هذه المفاتيح، على إنها أنثى تحرك الريح وتستعجل المطر، فتكون أول الخصب، وأول بدء فصل الربيع، وأول ذاكرة الحياة.
وبين ثنايا كل هذا التعاطي، نستدلُ على جهات جديدة عند الأنثى" النص" والتي تعرف كيف تحرك انشغالاتها، وتلتقي بالآخرين في ظل نص جديد يكمل هو النصوص الأخرى ذاكرة " الأنثى "الشاعرة.
وهذا ما سوف نكتشفه في مجموعة الشاعرة التونسية آمال موسى في مجموعتها " أنثى الماء "
الذات – صورة صغرى لحدث أكبر
حينما أشارت الشاعرة آمال موسى في مجموعتها " أنثى الماء" نحو نافذة الذات من خلال التقائها بالماء، عبر عنوان تقدم قصائد الكتاب جاء تحت اسم "في ملكوت الذات"
هو ذات الملكوت الذي أرتبط بفيض أنثوي، عبر مشاهد توزعت فوق صفحات الكتاب البيضاء لتأسس عبرها الشاعرة لغة نص حداثتي ساخ في الماء ، فاكتشف في العمق سرته الأولى من حكايات الأنثى التي أول ما لامسها من الحياة هو الماء ، وبعدها كان الصراخ.
ما أشدِّ اكتمالي
ما أعمق عشقي
بلوري نفيس
أثير .
بثوبي خيول الماء
ما سرُّ ارتوائي
حسبي أنَّ الدنيا ستتوجني
وتلقي ني ..
إلى وردة النسيان.
لغة الخطاب في هذا النص" اكتمال" قد تساعدنا في أن نؤكد إن الشاعرة قد استلهمت من واقع طفولتها ما قادها نحو فتح شرفات حلمها بلغة متصلة بتركيبها الأنثوي المتصل بالآخر من جهة القلب.
فالكلمات التي وظفتها الشاعرة، عامل مساعد ربط بين الشاعرة ولغة الماء التي أشارت نحو الخلق الأول وسرته التي فطر عليها.
ففي قوله تعالى: فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ, خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ" ( سورة الطارق الآيتا- 85 - 86 ).
فالشاعرة بتوظيفها للغة الماء قد أشارت في هذا التوظيف نحو ربط المجموعة بالعنوان وبين العلاقات الأخرى التي جمعت بين بهذا الخلق الأول وبين أول الأشياء من الخلق الرباني.
وبين تلك المسافة التي جاءت بخلق الله لها كونت الشاعرة صيرورتها الأخرى من هذه اللغة حيث التراب شكل آخر استعاد ذاكرتها ليضفي عليها لغتها الأخرى من الخلق الذي ربطه الباري بالماء والطين، وربطته الشاعرة بجدارها الأول والقوي في كل أقفاصها الدنيوية .
فهي تقول في قصيدة " كاهنة الجنون" :
كاهنة الجنون أنا
تركتُ بين الأقفاص قدمي وديعة
وطرتُ ...
إلى حيث الفرو الأبيض.
أنثى الجنون أنا
البس تعقلي
أتراجع نحو الأمام
لأهجم
على كل جميل .
العلاقة هنا قد لا ترتبط بالماء كعنصر تكويني أولي للبشرية بقدر ما ارتباطها بالحياة التي شكلت بعد الخلق كعنصر المداهمة والبحث عن معني العيش في هذه الحياة .
فالأنثى هنا صورة أخرى تقودنا نحو شجرة الله من الخلق، بين عقلين، الأول تقوده الشهوة والآخر تقوده الحكمة..
كقول الشاعرة من نفس النص " كاهنة الجنون " صفحة 12 من الديوان " أنثى الجنون أنا ، البس تعقلي " أو قولها من نفس النص :
ذات الجنون أنا
ولدتُ لأشقى
إلى الأرض رزقتُ
حبلى
لي شروق الشمس
ضياءُ القمر ..
هذا الفيض من الحديث عن الذات لم يكن خارجاً من فراغ، إنما الشاعرة أرادت أن تجعل من هذا الخروج محوراً يرتكز عليه الجنون، الذي كان في ظل بوحها مرتكزاً مهماً وفاعلاً في تركيبتها السيكولوجية لحكايتها التي فتحت بها تلك العلاقة الدقيقة المرتبطة بالنفس وخالقها وبين الماء وأول الخلق الإنساني "البشري" وإن في هذه العلاقة التي ربطت تلك الحالات الإنسانية بموقعها المعيشي قد أشار إلى الشاعرة وقادها نحو الجنون، كمفتاح آخر يربطها بالبشر.
ففي ظل علاقات تكبر أو تصغر بين الشاعرة وذاتها ظلت الشاعرة واقعة بين حوافر مؤلمة وأخرى مفرحة وبين علاقات كونت زهورها وأحلامها وأيضاً خوفها وقلقها وحزنها.
و مع الماء ظلت الشاعرة تمدُ من خيوطها الحالمة والتي أصبحت تمثل هويتها وتقودها نحو البسيطة في كل الأوقات.
فهي الأنثى الواردة للحياة، وهي الأنثى المتعبة من الحياة، وهي الأنثى المسالمة، وهي الأنثى المطالبة برجوع أنوثتها ، في عالم اكتظت في دهاليزه كل الأشياء، وكل القوانين أصبحت لعبة في يد من يتسيد عليها أو بيد أنثى خارجة عن صف السرب أو أنثى مشاكسة لا ترى من الحياة سوى أصبغ الشفاه .
تلك الأنثى تشير إليها الشاعرة على أنها لم تكن على شاكلتها، بل هي خلق آخر بين لهيب حارق وضوء مغيب كلاهما في سيكولوجيتها لعبا في تشكيل أنوثتها المسالمة .
ومن نص" لاشيء ينافس جمالكن غير حزني " صفحة 32 تشير الشاعرة نحو تلك العلاقة الأنثوية ...
كلكن أجمل مني
متوهجات في العتمة
عرائس
في بستان البنفسج
كلكن طمأنينة للقلق
وأنا
في شرفة النساء أُغني :
لاشيء جمالكن ..
غير حزني .
هذه المقاربات التي جعلت منها الشاعرة وجه للمقارنة الأنثوية هي نفسها المقاربات التي تصر عليها الشاعرة والتي تقع بين نبض قلبها وبين دموع عينيها.
فالجمال تراه غاية الضعيف، والكمال تراه غاية الكبير القوي في حمل معنى الجمال..
وكل هذه المقاربات تراها الشاعرة لعبة الإنسان وواقعه الذي ينمو به، ويستظل جداره .
مذكرة كل من يراها أو يحيط بها على إنها أنثى :
أنثى في أنثى أنا
أدارتني أمي كوكباً
حافيةً
أتوسل الانصراف .
نجمة أنا
ملأت الليل فضة
منحتُ الصبح ذهبي
نزعتُ الظلام
وكسوت عُري النهار
مثلي تتلألأ النجوم
تنطفئ في نُعاسي .
وبين ماتراه الشاعرة من إرادة تسكن أنوثتها وبين تشكيلها المائي لغة لم يخل منها التراب كقول الباري : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) (الروم:20) .
فالشاعرة قد أشارت في أكثر قصائد ديوانها إلى الماء، وإنها من الماء قد جاءت إلى الحياة .
والباري في محكم كتابه يشير إلى أن خلق الإنسان جاء من ماء وتراب وطين وفي آياته ما يؤكد هذا الخلق :
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً)
وفي آية أخرى :( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) ..
(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) (الروم:20 ، وهي الآية التي أشرت إليها في مقدمة القراءة وهنا أؤكد عليها على أن الخلق قد جاء في قول الباري وفي محكم هذه الآيات التي أشرت لها .
وكلها تصب في موضع حكمة الباري، للإنسان، والتكوين بغير هذه العناصر ناقص ومشوه.
هل وفقت الشاعرة في الجمع بين كل عناصر الخلق ؟
الشاعرة تشير في مجموعتها إلى الأنثى والماء" وهو عنوان المجموعة الشعرية للشاعرة .
والماء ظل ملتصقاً بهوية المجموعة في أكثر النصوص ولكن غاب عن الماء العنصران المكملان للخلق وهم التراب والطين.
ما جعل من فكرة النص مفقودة ، وذات منحنيات التصقت بذات الشاعرة الأنثى ولم تلتصق بالخلق كخلق جاء به الباري من عناصر الخلق مجتمعة .
والمجموعة ارتكزت على عنصر الماء كشاهد أولي للخلق، ثم نحت الشاعرة نحو ذاتها، ونحو جهات قربتها من الحياة لكنها لم تجعلها فلسفة وغاية ذات معطيات لشواهد ربانية.
فالشاعرة باكتفائها بالماء دليل على حيوية الشاعرة و من جريان الماء وتشكيله الأولى من الخلق .
فلو أعطت الشاعرة كل هذه العناصر التي أشار لها الباري في القرآن مكاناً أوسع في نصوصها لكانت الشاعرة أقرب في واقعها من تشكيل الخلق .
فغفلان الشاعرة عن عنصري الطين والتراب أفقد المجموعة حلقة مهمة في لغة التكوين.
فالمسافات التي قربتها الشاعرة مسافات ذات منحنيات ربانية ومهمة في التكوين البشري، لأن الخلق بدأ بآدم وبحواء، وكل من هذين العنصرين شكل ماهيته من التكوين.
وإذا أرادت الشاعرة بحسب ما فهمته من نصوص المجموعة الإشارة نحو الخلق ، فعليها أن تعيد قراءة المجموعة وأن تبحث عن ذلك الخيط المفقود في تسلسل هرم القصيدة .
وتبقى المجموعة ذات ظل أنثوي، لكنه مفقود العناصر، لأن القصائد جمع خيطها بوح الشاعرة الذاتي أكثر من بوحها الفلسفي .